زهراء الفرج
قلبي علي..
هذه المرة كان الرهش مُراً جداً!
وكأن السكر استبدل خواصه أو بطُل مفعوله في بلاد الإنجليز! فليس مع الرهش حليب مهيل ولا عصر لبق يجمعنا، ولا جلسة أبي الأرستقراطية ولا أمي تسكب روحها في المكان، ولا أنت تعكر مزاجي بمزحك الخشبي، هذه هي مقادير الرهش الحقيقية، أما ما وصلني فنحت شمعي يحمل صورة الرهش كتلك النحوت التي تستنسخ الطول واللون والأنف، لكنها تعجز عن نسخ الروح.
اكتب لك والسماء تلد توائم مليونية من الأحلام على هيئة مطر، إنه اليوم الثالث التي تمطر (ليدز) صديقة المطر بل هي ابنته. أخبرني معلمي بأن المدن هنا مصابة بالمطر وتحلم بالتخلص منه!
الكائن الذي نصلي لولادته على أرضنا ونزرع تحته الدعوات والأمنيات هو منبوذ كلقيط هنا!
خرجت بالأمس إلى البقالة فكان كل شيء حولي يستحم الأشجار، سيارات الأجرة، التفاح المركون في مقدمة الخضّار، قطة جارتي، المطر عادل يوزع نفسه بلا عنصرية يغمر مكونات الوجود بتساوي، هو تجلي فضيع عن خالقه!
تخيل لو أن الغراب دفن ضحيته في غيمة ورآه قابيل!!
لتحولت كل الجثث لثلج أو مطر.
هل لك ان تتصور بأن استحيل إلى حبات مطر أسقط على متسول، فأزيد بؤسه أو على زهرة صفراء استفاقت لتوها أو ربما على قمامة قديمة متعفنة تحوي فضلات كلاب أو حذاء فرزاتشي ملته صاحبته!
هل سيكون الموت رومانسياً هكذا، أم أنه يبقى كما هو موت!
يا إلهي إني أتحدث بطريقة فلسفية مقيتة، لكنني لا أهتم فمعك يحلو لقلمي أن يهذي ويفض هذا البياض بحروفه، فعالمي معك ليس به مقص يقرض ما لا يشتهيه، يالله تذكرت عندما انتقمنا من العاملة بقص ملابسها وحينما كُشف أمرنا اختبئنا في كرتون الملابس الشتوية كنت ابكي و انت صامت، آآآه نحن النساء تبكي مشاعرنا، جلدنا، تنتحب أظافرنا وأنتم صامتون صنميون، لن أدف الرسالة إلى معركة نسائية ذكورية فقبلتك تشفع لك.
علي.. هل كنا أوغاد بفعلتنا؟ سؤال تأخر 16 عاماً وإجابته ربما لن تجيء فالبشر كلهم يعتقدون أنهم محقون، الأمر معقد في تصنيف الحق والباطل فالاحساء تختلف عن ليدز عن دمشق عن بوخارست.
مشتاقة لك يا كرتوني.
زهراء الفرج
الرابعة والنصف عصراً تخلع الشمس ثوبها الفاقع، المتوهج بالحرارة لتبدو كمليحة ناعسة، ترافقني الانتظار لتنظم لنا رياح راقصة بثوب شفاف، تنثر ذيلها على الوجود فيستجيب لإغوائها من يستجيب، كشعري الذي قبل دعوة رقص (فاندانغو) مع الطبيعة، وبدأ يتطاير في قاعة الجو وينسجم مع إيقاع الجمال من حوله، لطالما أحبت أمي أن يكون لي شعر كشعر الفتيات، حتى يتسنى لها خلق سبب آخر للاهتمام بقطعة آخرى في جذعي!
أخذ الانتظار يجثم بكامل مفاصله علي وأنا عند بوابة المعهد أترقب قدوم سائقي المتأخر.
بدأ الشارع بالنشاط واستقبال إيقاع الخطوات البشرية عليه، البشر المارون أمامي يحملون على رؤوسهم فصول الحياة تذاكر سفر، أقراص خبز، جرائم متخفية، وآثام تلكىء أرواحهم، شراشف تلفها أشواق ناضجة.
رؤوس تدق الأرقام والجداول أجراسها، تحلم بمناطحة الطبيعة والقفز على المستحيل بالأبراج والمعلقات، هذا الكائن الآدمي العاشق للتحدي والندية حد التجاسر!
يسعى إلى فهم وتفكيك كل شيء حتى لو كلفه ذلك احتطاب خطيئة على ظهر كتابة كأبيه آدم!
عندما تلتقي عيناي بعيونهم يبتسمون ونحن الشعب المتفوق بالتجهم! ابتسامة بلا لون ورائحة ونكهة لكنها لا تشبه الماء العذب، هي كالمطر الحمضي الذي تكون في غيوم سوداء تحاول تبيض نفسها بافتعال ابتسامة رخوة كمخاط كلب قطبي!
يبتسمون يقتربون مني يهمسون هل أنت جائع، عطشان تنتظر وليك!
ويستمرون في بذل المزيد من الابتسامات لكنني كنت استقبلها بصقات مالحة تزيد الجرح قرحاً.
أنتم أولى بابتسامة الشفقة هذه، أمنحوها أنفسكم ذات الجلد المتشقق المتقشر علها تترطب وتستعيد فطرتها!
هي فقط من مرت بجانبي ولم تهتم لوجودي المتصلب على كرسي المتحرك، امرأة فارعة الطول سمراء البشرة عيناها كهفان غامضان تسكناه حمامتان، وقعت من فوري في غرام تجاهلها بل تراجعت لتسألني: هل تمر سيارات أجرة من هنا؟
عاملتني كما يتعامل أبناء هذه الصحراء مع بعضهم، كما تلتقي السحب في زرقة الكون دون أن تمطر أو ترعد تمر بسلام، سألتني بلا عبارات الطلب اللبقة أو كلمات ثناء منمقة، تحدثت معي بنمطية فادحة!
شعرت بأني كائن لا اختلف عنهم، صحراوي متشقق وبأن شعري منحني بداوة لا رقة ونعومة كما أرادت أمي!
والكرسي الذي امتطي صهوته ما هو إلا كرسي حديدي في موقف الباصات لا يمنحني امتيازاً استحق به ابتسامات جافة أو شفقة مهترئة.
أنا وكرسيي لا نحتاج لزيفكم!
فقط دعونا نتقاسم الإنسانية كما نتقاسم الرمل والشمس، الغيوم والقصائد.
كفوا أعينكم عن التحديق كما لو كنت عارياً، وعورتي كرسي متحرك!.